سورة الأحزاب - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


لما زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة بزينب بنت جحش كما مرّ في تفسير الآية التي قبل هذه أنزل الله سبحانه: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} أي واذكر إذ تقول للذي أنعم الله عليه وهو زيد بن حارثة، أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أعتقه من الرق، وكان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وأعتقه وتبناه، وسيأتي في بيان سبب نزول الآية في آخر البحث ما يوضح المراد منها. قال القرطبي: وقد اختلف في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم ابن جرير الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد، وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوّجها هو، ثم إن زيداً لما أخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظماً بالشرف قال له: «اتق الله فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك»، وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها، وهذا الذي كان يخفي في نفسه ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف. انتهى. {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} يعني زينب {واتق الله} في أمرها، ولا تعجل بطلاقها {وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} وهو نكاحها إن طلقها زيد. وقيل: حبها {وَتَخْشَى الناس} أي تستحييهم، أو تخاف من تعبيرهم بأن يقولوا أمر مولاه بطلاق امرأته ثم تزوّجها {والله أَحَقُّ أَن تخشاه} في كل حال وتخاف منه وتستحييه والواو للحال، أي تخفي في نفسك ذلك الأمر مخافة من الناس. {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً} قضاء الوطر في اللغة: بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء، يقال: قضى وطرا منه: إذا بلغ ما أراد من حاجته فيه، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
أيها الرائح المجدّ ابتكارا *** قد قضى من تهامة الأوطارا
أي فرغ من أعمال الحج وبلغ ما أراد منه. والمراد هنا: أنه قضى وطره منها بنكاحها والدخول بها بحيث لم يبق له فيها حاجة. وقيل: المراد به: الطلاق؛ لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة.
وقال المبرد: الوطر: الشهوة والمحبة، وأنشد:
وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما *** قضى وطراً منها جميل بن معمر
وقال أبو عبيدة: الوطر: الأرب والحاجة، وأنشد قول الفزاري:
ودّعنا قبل أن نودّعه *** لما قضى من شبابنا وطرا
قرأ الجمهور: {زوجناكها} وقرأ عليّ وابناه الحسن والحسين زوّجتكها فلما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن ولا عقد ولا تقدير صداق ولا شيء مما هو معتبر في النكاح في حق أمته.
وقيل: المراد به. الأمر له بأن يتزوّجها. والأوّل أولى، وبه جاءت الأخبار الصحيحة. ثم علل سبحانه ذلك بقوله: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ} أي ضيق ومشقة {فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} أي في التزوّج بأزواج من يجعلونه ابناً كما كانت تفعله العرب فإنهم كانوا يتبنون من يريدون، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة، فكان يقال: زيد بن محمد، حتى نزل قوله سبحانه: {ادعوهم لاِبَائِهِمْ} وكانت العرب تعتقد أنه يحرم عليه نساء من تبنوه، كما تحرم عليه نساء أبنائهم حقيقة. والأدعياء جمع دعيّ، وهو الذي يدعي ابناً من غير أن يكون ابناً على الحقيقة، فأخبرهم الله أن نساء الأدعياء حلال لهم {إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} بخلاف ابن الصلب، فإن امرأته تحرّم على أبيه بنفس العقد عليها {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} أي كان قضاء الله في زينب أن يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء ماضياً مفعولاً لا محالة.
ثم بيّن سبحانه: أنه لم يكن على رسول الله صلى الله عليه وسلم حرج في هذا النكاح، فقال: {مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ} أي فيما أحلّ الله له وقدّره وقضاه، يقال فرض له كذا، أي قدّر له {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} أي إن هذا هو السنن الأقدم في الأنبياء والأمم الماضية أن ينالوا ما أحله الله لهم من أمر النكاح وغيره {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} أي قضاء مقضياً. قال مقاتل: أخبر الله أن أمر زينب كان من حكم الله وقدره، وانتصاب {سنة} على المصدر، أي سنّ الله سنة الله، أو اسم وضع موضع المصدر أو منصوب بجعل أو بالإغراء. وردّه أبو حيان بأن عامل الإغراء لا يحذف.
ثم ذكر سبحانه الأنبياء الماضين وأثنى عليهم فقال: {الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله} والموصول في محلّ جر صفة {للذين خلوا} أو منصوب على المدح، مدحهم سبحانه بتبليغ ما أرسلهم به إلى عباده وخشيته في كل فعل وقول، ولا يخشون سواه، ولا يبالون بقول الناس ولا بتعييرهم، بل خشيتهم مقصورة على الله سبحانه: {وكفى بالله حَسِيباً} حاضراً في كل مكان يكفي عباده كل ما يخافونه، أو محاسباً لهم في كل شيء.
ولما تزوّج صلى الله عليه وسلم زينب قال الناس: تزوّج امرأة ابنه، فأنزل الله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} أي ليس بأب لزيد ابن حارثة على الحقيقة حتى تحرم عليه زوجته، ولا هو أب لأحد لم يلده.
قال الواحدي: قال المفسرون: لم يكن أبا أحد لم يلده، وقد ولد له من الذكور إبراهيم والقاسم والطيب والمطهر. قال القرطبي: ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلاً. قال: وأما الحسن والحسين فكانا طفلين ولم يكونا رجلين معاصرين له {ولكن رَّسُولَ الله} قال الأخفش والفراء: ولكن كان رسول الله، وأجازا الرفع. وكذا قرأ ابن أبي عبلة بالرفع في رسول وفي خاتم على معنى: ولكن هو رسول الله وخاتم النبيين، وقرأ الجمهور بتخفيف {لكن}، ونصب {رسول} و{خاتم}، ووجه النصب على خبرية كان المقدرة كما تقدّم، ويجوز أن يكون بالعطف على {أبا أحد}. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بتشديد {لكن} ونصب {رسول} على أنه اسمها وخبرها محذوف، أي ولكن رسول الله هو. وقرأ الجمهور: {خاتم} بكسر التاء. وقرأ عاصم بفتحها. ومعنى القراءة الأولى: أنه ختمهم، أي جاء آخرهم. ومعنى القراءة الثانية: أنه صار كالخاتم لهم الذي يتختمون به ويتزينون بكونه منهم. وقيل: كسر التاء وفتحها لغتان. قال أبو عبيد: الوجه الكسر؛ لأن التأويل: أنه ختمهم فهو: خاتمهم، وأنه قال: {أنا خاتم النبيين}، وخاتم الشيء آخره، ومنه قولهم: خاتمة المسك.
وقال الحسن: الخاتم هو الذي ختم به {وَكَانَ الله بِكُلّ شَيْء عَلِيماً} قد أحاط علمه بكل شيء، ومن جملة معلوماته هذه الأحكام المذكورة هنا.
وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن أنس قال: جاء زيد بن حارثة يشكو زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {اتق الله وأمسك عليك زوجك}، فنزلت: {وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} قال أنس: فلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه الآية، فتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زوجناكها} فكانت تفخر على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم تقول: زوّجكنّ أهاليكنّ وزوّجني الله من فوق سبع سماوات.
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أنس قال: لما انقضت عدّة زينب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: «اذهب فاذكرها عليّ»، فانطلق، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، فقلت: يا زينب، أبشري أرسلني رسول الله يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس، وبقي رجال يتحدّثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته، فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهنّ ويقولون: يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر، فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] الآية.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عائشة قالت: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} يعني بالإسلام {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} يعني بالعتق {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} إلى قوله: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوّجها قالوا: تزوّج حليلة ابنه، فأنزل الله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين}، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلاً يقال له زيد بن محمد، فأنزل الله: {ادعوهم لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} يعني: أعدل عند الله.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي في قوله: {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} قال: يعني يتزوّج من النساء ما شاء هذا فريضة، وكان من قبل من الأنبياء هذا سنتهم، قد كان لسليمان بن داود ألف امرأة، وكان لداود مائة امرأة.
وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن جريج في قوله: {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} قال: داود: والمرأة التي نكح وزوجها واسمها اليسية، فذلك سنة في محمد وزينب {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} كذلك من سنته في داود والمرأة والنبي وزينب.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} قال: نزلت في زيد بن حارثة.
وأخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً، فانتهى إلاّ لبنة واحدة، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة».
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل ابتنى داراً فأكملها وأحسنها إلاّ موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها قال: ما أحسنها إلاّ موضع اللبنة، فأنا موضع اللبنة حتى ختم بي الأنبياء».
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه.
وأخرج أحمد، والترمذي وصححه من حديث أبيّ بن كعب نحوه أيضاً.


قوله: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} أمر سبحانه عباده بأن يستكثروا من ذكره بالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير وكل ما هو ذكر لله تعالى. قال مجاهد: هو أن لا ينساه أبداً، وقال الكلبي: ويقال: ذكراً كثيراً بالصلوات الخمس، وقال مقاتل: هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال {وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي نزّهوه عما لا يليق به في وقت البكرة ووقت الأصيل، وهما أوّل النهار وآخره، وتخصيصهما بالذكر لمزيد ثواب التسبيح فيهما. وخصّ التسبيح بالذكر بعد دخوله تحت عموم قوله: {اذكروا الله}. تنبيهاً على مزيد شرفه، وإنافة ثوابه على غيره من الأذكار. وقيل: المراد بالتسبيح بكرة: صلاة الفجر، وبالتسبيح أصيلاً: صلاة المغرب.
وقال قتادة وابن جرير: المراد: صلاة الغداة، وصلاة العصر.
وقال الكلبي: أما بكرة: فصلاة الفجر، وأما أصيلاً: فصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال المبرّد: والأصيل العشيّ وجمعه أصائل.
{هُوَ الذي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} والصلاة من الله على العباد رحمته لهم وبركته عليهم، ومن الملائكة الدعاء لهم والاستغفار كما قال: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ} [غافر: 7] قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان: المعنى: ويأمر ملائكته بالاستغفار لكم، والجملة مستأنفة كالتعليل لما قبلها من الأمر بالذكر والتسبيح. وقيل: الصلاة من الله على العبد هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده. وقيل: الثناء عليه، وعطف ملائكته على الضمير المستكن في يصلي لوقوع الفصل بقوله: {عليكم} فأغنى ذلك عن التأكيد المراد بالضمير المنفصل. والمراد بالصلاة هنا معنى مجازي يعمّ صلاة الله بمعنى الرحمة، وصلاة الملائكة بمعنى الدعاء؛ لئلا يجمع بين حقيقة ومجاز في كلمة واحدة، واللام في {لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور} متعلق ب {يصلي}، أي يعتني بأموركم هو وملائكته؛ ليخرجكم من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعات، ومن ظلمة الضلالة إلى نور الهدى، ومعنى الآية: تثبيت المؤمنين على الهداية ودوامهم عليها؛ لأنهم كانوا وقت الخطاب على الهداية. ثم أخبر سبحانه برحمته للمؤمنين تأنيساً لهم وتثبيتاً فقال: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} وفي هذه الجملة تقرير لمضمون ما تقدّمها.
ثم بيّن سبحانه: أن هذه الرحمة منه لا تخص السامعين وقت الخطاب، بل هي عامة لهم ولمن بعدهم وفي الدار الآخرة، فقال: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام} أي تحية المؤمنين من الله سبحانه يوم لقائهم له عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنة، هي التسليم عليهم منه عزّ وجلّ. وقيل: المراد: تحية بعضهم لبعض يوم يلقون ربهم سلام؛ وذلك لأنه كان بالمؤمنين رحيماً، فلما شملتهم رحمته وأمنوا من عقابه حيا بعضهم بعضاً سروراً واستبشاراً. والمعنى: سلامة لنا من عذاب النار. قال الزجاج: المعنى: فيسلمهم الله من الآفات، ويبشرهم بالأمن من المخافات يوم يلقونه.
وقيل: الضمير في {يلقونه} راجع إلى ملك الموت، وهو الذي يحييهم كما ورد أنه لا يقبض روح مؤمن إلاّ سلم عليه.
وقال مقاتل: هو تسليم الملائكة عليهم يوم يلقون الربّ كما في قوله: {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ * سلام عَلَيْكُمُ} [الرعد: 23، 24] {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} أي أعدّ لهم في الجنة رزقاً حسناً، ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم.
ثم ذكر سبحانه صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرسله لها فقال: {ياأيها النبي إِنَّا أرسلناك شَاهِداً} أي على أمته يشهد لمن صدقه وآمن به، وعلى من كذبه وكفر به. قال مجاهد: شاهداً على أمته بالتبليغ إليهم وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم إليهم {وَمُبَشّراً} للمؤمنين برحمة الله وبما أعدّه لهم من جزيل الثواب وعظيم الأجر {وَنَذِيرًا} للكافرين والعصاة بالنار، وبما أعدّه الله لهم من عظيم العقاب {وَدَاعِياً إِلَى الله} يدعو عباد الله إلى التوحيد والإيمان بما جاء به، والعمل بما شرعه لهم، ومعنى {بِإِذْنِهِ} بأمره له بذلك وتقديره. وقيل: بتبشيره {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} أي يستضاء به في ظلم الضلالة كما يستضاء بالمصباح في الظلمة. قال الزجاج: {وَسِرَاجاً} أي ذا سراج منير أي كتاب نير، وانتصاب {شاهداً}، وما بعده على الحال {وَبَشّرِ المؤمنين} عطف على مقدّر يقتضيه المقام كأنه قال: فاشهد وبشّر، أو فدبر أحوال الناس، {وَبَشّرِ المؤمنين} أو هو من عطف جملة على جملة، وهي المذكورة سابقاً، ولا يمنع من ذلك الاختلاف بين الجملتين بالإخبار والإنشاء. أمره سبحانه بأن يبشرهم بأن لهم من الله فضلاً كبيراً على سائر الأمم، وقد بيّن ذلك سبحانه بقوله: {والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي روضات الجنات لَهُمْ مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} [الشورى: 22] ثم نهاه سبحانه عن طاعة أعداء الدين فقال: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك به من المداهنة في الدين، وفي الآية تعريض لغيره من أمته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم عن طاعتهم في شيء مما يريدونه ويشيرون به عليه، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في أوّل السورة {وَدَعْ أَذَاهُمْ} أي لا تبال بما يصدر منهم إليك من الأذى بسبب يصيبك في دين الله وشدّتك على أعدائه، أو دع أن تؤذيهم مجازاة لهم على ما يفعلونه من الأذى لك، فالمصدر على الأوّل مضاف إلى الفاعل وعلى الثاني مضاف إلى المفعول، وهي منسوخة بآية السيف {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في كل شؤونك {وكفى بالله وَكِيلاً} توكل إليه الأمور وتفوّض إليه الشؤون، فمن فوّض إليه أموره كفاه، ومن وكل إليه أحواله لم يحتج فيها إلى سواه.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} يقول: لا يفرض على عباده فريضة إلاّ جعل لها أجلاً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه ولم يعذر أحداً في تركه إلاّ مغلوباً على عقله، فقال: {فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم} [النساء: 103] بالليل والنهار، في البرّ والبحر، في السفر والحضر، في الغنى والفقر، في الصحة والسقم، في السرّ والعلانية وعلى كل حال، وقال: {وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} إذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته قال الله: {هُوَ الذي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ}.
وقد ورد في فضل الذكر والاستكثار منه أحاديث كثيرة، وقد صنّف في الأذكار المتعلقة بالليل والنهار جماعة من الأئمة كالنسائي والنووي والجزري وغيرهم، وقد نطقت الآيات القرآنية بفضل الذاكرين وفضيلة الذكر {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] وقد ورد أنه أفضل من الجهاد، كما في حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد والترمذي والبيهقي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: «الذاكرون الله كثيراً» قلت: يا رسول الله، ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: «لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دماً لكان الذاكرون أفضل منه درجة».
وأخرج أحمد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟» قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: «ذكر الله عزّ وجلّ» وأخرجه أيضاً الترمذي وابن ماجه.
وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبق المفرّدون»، قالوا: وما المفرّدون يا رسول الله؟ قال: «الذاكرون الله كثيراً».
وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان، والحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أكثروا ذكر الله حتى يقولوا: مجنون».
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذكروا الله حتى يقول المنافقون: إنكم مراؤون». وورد في فضل التسبيح بخصوصه أحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما، فمن ذلك حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال في يوم مائة مرّة سبحان الله وبحمده حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر».
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لنا: «أيعجز أحدكم أن يكتسب في اليوم ألف حسنة؟» فقال رجل: كيف يكتسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: «يسبّح الله مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة ويحط عنه ألف خطيئة».
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في ذكر الموت، وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن البراء ابن عازب في قوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام} قال: يوم يلقون ملك الموت ليس من مؤمن يقبض روحه إلاّ سلم عليه.
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال: لما نزلت: {ياأيها النبي إِنَّا أرسلناك شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً} وقد كان أمر علياً ومعاذاً أن يسيرا إلى اليمن، فقال: «انطلقا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، فإنها قد أنزلت عليّ {ياأيها النبي إِنَّا أرسلناك شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً}» قال: شاهداً على أمتك، ومبشراً بالجنة، ونذيراً من النار، وداعياً إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله {بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} بالقرآن.
وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله ابن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفة في القرآن: {يا أيها النبيّ إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً}، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا تجزي بالسيئة السيئة، ولكن تعفو وتصفح زاد أحمد: «ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلاّ الله، فيفتح بها أعينًا عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً».
وقد ذكر البخاري في صحيحه في البيوع هذا الحديث فقال: وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام، ولم يقل: عبد الله بن عمرو، وهذا أولى، فعبد الله بن سلام هو الذي كان يسأل عن التوراة فيخبر بما فيها.


لما ذكر سبحانه قصة زيد، وطلاقه لزينب، وكان قد دخل بها، وخطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدتها كما تقدّم، خاطب المؤمنين مبيناً لهم حكم الزوجة إذا طلقها زوجها قبل الدخول فقال: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات} أي عقدتم بهنّ عقد النكاح، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلاّ في معنى العقد كما قاله صاحب الكشاف والقرطبي وغيرهما.
وقد اختلف في لفظ النكاح هل هو حقيقة في الوطء، أو في العقد، أو فيهما على طريقة الاشتراك؟ وكلام صاحب الكشاف في هذا الموضع يشعر بأنه حقيقة في الوطء، فإنه قال: النكاح الوطء، وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث أنه طريق إليه، ونظيره تسمية الخمر إثماً؛ لأنها سبب في اقتراف الإثم. ومعنى {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ}: من قبل أن تجامعوهنّ، فكنى عن ذلك بلفظ المس {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} وهذا مجمع عليه كما حكى ذلك القرطبي وابن كثير، ومعنى {تعتدّونها}: تستوفون عددها، من عددت الدراهم، فأنا أعتدّها. وإسناد ذلك إلى الرجال للدلالة على أن العدّة حق لهم كما يفيده {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} قرأ الجمهور: {تعتدّونها} بتشديد الدال، وقرأ ابن كثير في رواية عنه وأهل مكة بتخفيفها. وفي هذه القراءة وجهان: أحدهما: أن تكون بمعنى الأولى، مأخوذة من الاعتداد، أي تستوفون عددها، ولكنهم تركوا التضعيف لقصد التخفيف. قال الرازي: ولو كان من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف؛ لأن الاعتداء يتعدّى بعلى. وقيل: يجوز أن يكون من الاعتداء بحذف حرف الجرّ، أي تعتدّون عليها، أي على العدّة مجازاً، ومثله قوله:
تحنّ فتبدي ما بها من صبابة *** وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني
أي لقضى عليّ. والوجه الثاني: أن يكون المعنى: تعتدون فيها، والمراد بالاعتداء هذا هو ما في قوله: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ} [البقرة: 231] فيكون معنى الآية على القراءة الآخرة: فما لكم عليهنّ من عدّة تعتدّون عليهنّ فيها بالمضارة.
وقد أنكر ابن عطية صحة هذه القراءة عن ابن كثير وقال: إن البزيّ غلط عليه، وهذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قُرُوء} [البقرة: 228] وبقوله: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4]. والمتعة المذكورة هنا قد تقدّم الكلام فيها في البقرة وقال سعيد بن جبير: هذه المتعة المذكورة هنا منسوخة بالآية التي في البقرة، وهي قوله: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. وقيل: المتعة هنا هي أعمّ من أن تكون نصف الصداق، أو المتعة خاصة إن لم يكن قد سمي لها، فمع التسمية للصداق تستحق نصف المسمى عملاً بقوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ومع عدم التسمية تستحق المتعة عملاً بهذه الآية، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} [البقرة: 236] وهذا الجمع لا بدّ منه، وهو مقدّم على الترجيح وعلى دعوى النسخ، وتخصص من هذه الآية المتوفى عنها زوجها، فإنه إذا مات بعد العقد عليها وقبل الدخول بها كان الموت كالدخول فتعتدّ أربعة أشهر وعشراً. قال ابن كثير: بالإجماع، فيكون المخصص هو الإجماع.
وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بأنه لا طلاق قبل النكاح، وهم الجمهور، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى صحة الطلاق قبل النكاح إذا قال: إن تزوّجت فلانة فهي طالق، فتطلق إذا تزوّجها. ووجه الاستدلال بالآية لما قاله الجمهور أنه قال: {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فعقب الطلاق بالنكاح بلفظ ثم المشعرة بالترتيب والمهلة. {وَسَرّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} أي أخرجوهنّ من منازلكم؛ إذ ليس لكم عليهنّ عدّة. والسراح الجميل الذي لا ضرار فيه، وقيل السراح الجميل أن لا يطالبها بما كان قد أعطاها، وقيل: السراح الجميل هنا كناية عن الطلاق، وهو بعيد لأنه قد تقدّم ذكر الطلاق ورتب عليه التمتيع وعطف عليه السراح الجميل، فلا بدّ أن يراد به معنى غير الطلاق. {ياأيها النبي إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنّ} ذكر سبحانه في هذه الآية أنواع الأنكحة التي أحلها لرسوله، وبدأ بأزواجه اللاتي قد أعطاهنّ أجورهنّ، أي مهورهنّ، فإن المهور أجور الأبضاع، وإيتاؤها: إما تسليمها معجلة أو تسميتها في العقد.
واختلف في معنى قوله: {أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك} فقال ابن زيد، والضحاك: إن الله أحلّ له أن يتزوّج كل امرأة يؤتيها مهرها، فتكون الآية مبيحة لجميع النساء ما عدا ذوات المحارم.
وقال الجمهور: المراد أحللنا لك أزواجك الكائنات عندك؛ لأنهنّ قد اخترنك على الدنيا وزينتها، وهذا هو الظاهر؛ لأن قوله: {أحللنا}، و{آتيت} ماضيان، وتقييد الإحلال بإيتاء الأجور ليس لتوقف الحلّ عليه، لأنه يصح العقد بلا تسمية، ويجب مهر المثل مع الوطء، والمتعة مع عدمه، فكأنه لقصد الإرشاد إلى ما هو أفضل {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ} أي: السراري اللاتي دخلن في ملكه بالغنيمة. ومعنى {مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ} مما ردّه الله عليك من الكفار بالغنيمة لنسائهم المأخوذات على وجه القهر والغلبة، وليس المراد بهذا القيد إخراج ما ملكه بغير الغنيمة، فإنها تحلّ له السرية المشتراة، والموهوبة، ونحوهما، ولكنه إشارة إلى ما هو أفضل كالقيد الأوّل المصرّح بإيتاء الأجور، وهكذا قيد المهاجرة في قوله: {وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتي هاجرن مَعَكَ} فإنه للإشارة إلى ما هو أفضل، وللإيذان بشرف الهجرة، وشرف من هاجر، والمراد بالمعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها.
وقيل: إن هذا القيد: أعني المهاجرة معتبر، وأنها لا تحلّ له من لم تهاجر من هؤلاء كما في قوله: {والذين ءامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] ويؤيد هذا حديث أم هانئ، وسيأتي آخر البحث هذا إن شاء الله تعالى. ووجه إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة ما ذكره القرطبي أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز، وليس كذلك العمة والخالة. قال: وهذا عرف لغوي، فجاء الكلام عليه بغاية البيان. وحكاه عن ابن العربي.
وقال ابن كثير: إنه وحّد لفظ الذكر لشرفه، وجمع الأنثى كقوله: {عَنِ اليمين والشمآئل} [النحل: 48] وقوله: {يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] وله نظائر كثيرة انتهى.
وقال النيسابوري: وإنما لم يجمع العم والخال اكتفاء بجنسيتهما مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع اجتماع أختين تحت واحد، ولم يحسن هذا الاختصار في العمة والخالة لإمكان سبق الوهم إلى أن التاء فيهما للوحدة انتهى. وكل وجه من هذه الوجوه يحتمل المناقشة بالنقض والمعارضة، وأحسنها تعليل جمع العمة والخالة بسبق الوهم إلى أن التاء للوحدة، وليس في العم والخال ما يسبق الوهم إليه بأنه أريد به الوحدة إلاّ مجرّد صيغة الإفراد، وهي لا تقتضي ذلك بعد إضافتها لما تقرّر من عموم أسماء الأجناس المضافة، على أن هذا الوجه الأحسن لا يصفو عن شوب المناقشة.
{وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيّ} هو معطوف على مفعول {أحللنا}، أي وأحللنا لك امرأة مصدقة بالتوحيد إن وهبت نفسها منك بغير صداق. وأما من لم تكن مؤمنة، فلا تحلّ لك بمجرّد هبتها نفسها لك، ولكن ليس ذلك بواجب عليك بحيث يلزمك قبول ذلك، بل مقيداً بإرادتك، ولهذا قال: {إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا} أي يصيرها منكوحة له ويتملك بضعها بتلك الهبة بلا مهر.
وقد قيل: إنه لم ينكح النبيّ صلى الله عليه وسلم من الواهبات أنفسهن أحداً ولم يكن عنده منهنّ شيء. وقيل: كان عنده منهنّ خولة بنت حكيم كما في صحيح البخاري عن عائشة.
وقال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث.
وقال الشعبي: هي: زينب بنت خزيمة الأنصارية أمّ المساكين.
وقال عليّ بن الحسين والضحاك ومقاتل: هي أمّ شريك بنت جابر الأسدية.
وقال عروة بن الزبير: هي أمّ حكيم بنت الأوقص السلمية. ثم بين سبحانه أن هذا النوع من النكاح خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحلّ لغيره من أمته، فقال: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين} أي هذا الإحلال الخالص هو خاص بك من دون غيرك من المؤمنين. ولفظ {خالصة} إما حال من {امرأة}، قاله الزجاج.
أو مصدر مؤكد كوعد الله، أي خالص لك خلوصاً. قرأ الجمهور: {وامرأة} بالنصب. وقرأ أبو حيوة بالرفع على الابتداء. وقرأ الجمهور: {إن وهبت} بكسر إن. وقرأ أبيّ والحسن وعيسى بن عمر بفتحها على أنه بدل من امرأة بدل اشتمال. أو على حذف لام العلة، أي لأن وهبت. وقرأ الجمهور: {خالصة} بالنصب، وقرئ بالرفع على أنها صفة ل {امرأة} على قراءة من قرأ: {امرأة} بالرفع.
وقد أجمع العلماء على أن هذا خاص بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يجوز لغيره ولا ينعقد النكاح بهبة المرأة نفسها إلاّ ما روي عن أبي حنيفة، وصاحبيه أنه يصحّ النكاح إذا وهبت، وأشهد هو على نفسه بمهر. وأما بدون مهر فلا خلاف في أن ذلك خاص بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أزواجهم} أي ما فرضه الله سبحانه على المؤمنين في حقّ أزواجهم من شرائط العقد وحقوقه، فإن ذلك حق عليهم مفروض لا يحلّ لهم الإخلال به، ولا الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما خصه الله به توسعة عليه وتكريماً له، فلا يتزوّجوا إلاّ أربعاً بمهر وبينة ووليّ {وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم} أي: وعلمنا ما فرضنا عليهم فيما ملكت أيمانهم من كونهنّ ممن يجوز سبيه وحربه، لا من كان لا يجوز سبيه أو كان له عهد من المسلمين {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ}. قال المفسرون: هذا يرجع إلى أوّل الآية، أي أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لكيلا يكون عليك حرج، فتكون اللام متعلقة ب {أحللنا}. وقيل: هي متعلقة ب {خالصة}، والأوّل أولى والحرج: الضيق، أي وسعنا عليك في التحليل لك لئلا يضيق صدرك، فتظن أنك قد أثمت في بعض المنكوحات {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} يغفر الذنوب ويرحم العباد، ولذلك وسع الأمر، ولم يضيقه.
{تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ} قرئ: {ترجئ} مهموزاً وغير مهموز، وهما لغتان، والإرجاء: التأخير، يقال: أرجأت الأمر وأرجيته: إذا أخرته {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء} أي تضم إليك، يقال: آواه إليه بالمد: ضمه إليه، وأوى مقصوراً، أي ضم إليه، والمعنى: أن الله وسع على رسوله وجعل الخيار إليه في نسائه، فيؤخر من شاء منهنّ ويؤخر نوبتها ويتركها ولا يأتيها من غير طلاق، ويضم إليه من شاء منهنّ ويضاجعها ويبيت عندها، وقد كان القسم واجباً عليه حتى نزلت هذه الآية، فارتفع الوجوب وصار الخيار إليه، وكان ممن أوى إليه: عائشة وحفصة وأمّ سلمة وزينب، وممن أرجأه: سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة وصفية، فكان صلى الله عليه وسلم يسوّي بين من آواه في القسم، وكان يقسم لمن أرجأه ما شاء. هذا قول جمهور المفسرين في معنى الآية، وهو الذي دلت عليه الأدلة الثابتة في الصحيح وغيره.
وقيل: هذه الآية في الواهبات أنفسهنّ، لا في غيرهنّ من الزوجات. قاله الشعبي وغيره. وقيل: معنى الآية في الطلاق، أي تطلق من تشاء منهنّ وتمسك من تشاء.
وقال الحسن: إن المعنى: تنكح من شئت من نساء أمتك وتترك نكاح من شئت منهنّ.
وقد قيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ} وسيأتي بيان ذلك.
{وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} الابتغاء: الطلب، والعزل: الإزالة، والمعنى: أنه إن أراد أن يؤوي إليه امرأة ممن قد عزلهنّ من القسمة ويضمها إليه فلا حرج عليه في ذلك. والحاصل أن الله سبحانه فوّض الأمر إلى رسوله يصنع في زوجاته ما شاء من تقديم وتأخير، وعزل وإمساك، وضمّ من أرجأ، وإرجاء من ضمّ إليه، وما شاء في أمرهنّ فعل توسعة عليه ونفياً للحرج عنه. وأصل الجناح: الميل، يقال: جنحت السفينة: إذا مالت. والمعنى: لا ميل عليك بلوم ولا عتب فيما فعلت، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم من التفويض إلى مشيئته، وهو مبتدأ وخبره: {أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} أي ذلك التفويض الذي فوّضناك أقرب إلى رضاهنّ؛ لأنه حكم الله سبحانه. قال قتادة: أي: ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهنّ أدنى إلى رضاهنّ إذ كان من عندنا، لأنهنّ إذا علمن أنه من الله قرّت أعينهنّ. قرأ الجمهور: {تقرّ} على البناء للفاعل مسنداً إلى {أعينهنّ}، وقرأ ابن محيصن: {تقرّ} بضم التاء من أقرر، وفاعله ضمير المخاطب، ونصب أعينهنّ على المفعولية، وقرئ على البناء للمفعول.
وقد تقدّم بيان معنى قرّة العين في سورة مريم، ومعنى {وَلاَ يَحْزَنّ}: لا يحصل معهنّ حزن بتأثيرك بعضهنّ دون بعض {وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} أي يرضين جميعاً بما أعطيتهنّ من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء. قرأ الجمهور: {كلهنّ} بالرفع تأكيداً لفاعل {يرضين}. وقرأ أبو إياس بالنصب تأكيداً لضمير المفعول في {آتيتهنّ}، {والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ} من كل ما تضمرونه، ومن ذلك ما تضمرونه من أمور النساء {وَكَانَ الله عَلِيماً} بكل شيء لا تخفى عليه خافية {حَلِيماً} لا يعاجل العصاة بالعقوبة.
{لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ} قرأ الجمهور: {لاَّ يَحِلُّ} بالتحتية للفصل بين الفعل وفاعله المؤنث، وقرأ ابن كثير بالفوقية.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية على أقوال: الأوّل: أنها محكمة، وأنه حرّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج على نسائه؛ مكافأة لهنّ بما فعلن من اختيار الله ورسوله والدار الآخرة، لما خيرهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله له بذلك، وهذا قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والحسن وابن سيرين، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابن زيد وابن جرير.
وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: لما حرّم الله عليهنّ أن يتزوجن من بعده حرّم عليه أن يتزوّج غيرهن.
وقال أبيّ بن كعب وعكرمة وأبو رزين: إن المعنى: لا يحل لك النساء من بعد الأصناف التي سماها الله. قال القرطبي: وهو اختيار ابن جرير. وقيل: لا يحلّ لك اليهوديات ولا النصرانيات لأنهنّ لا يصح أن يتصفن بأنهنّ أمهات المؤمنين. وهذا القول فيه بُعْد؛ لأنه يكون التقدير: لا يحلّ لك النساء من بعد المسلمات، ولم يجر للمسلمات ذكر. وقيل: هذه الآية منسوخة بالسنة وبقوله سبحانه: {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء} وبهذا قالت عائشة وأم سلمة وعلي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وغيرهم، وهذا هو الراجح، وسيأتي في آخر البحث ما يدل عليه من الأدلة.
{وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} أي تتبدل، فحذفت إحدى التاءين، أي: ليس لك أن تطلق واحدة منهنّ أو أكثر وتتزوّج بدل من طلقت منهنّ، و{من} في قوله: {مِنْ أَزْوَاجٍ} مزيدة للتأكيد.
وقال ابن زيد: هذا شيء كانت العرب تفعله. يقول: خذ زوجتي وأعطني زوجتك، وقد أنكر النحاس وابن جرير ما ذكره ابن زيد. قال ابن جرير: ما فعلت العرب هذا قط. ويدفع هذا الإنكار منهما ما أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ} وأخرجه أيضاً عنه البزار وابن مردويه، وجملة: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} في محل نصب على الحال من فاعل {تبدّل}، والمعنى أنه لا يحل التبدّل بأزواجك ولو أعجبك حسن غيرهنّ ممن أردت أن تجعلها بدلاً من إحداهنّ، وهذا التبدّل أيضاً من جملة ما نسخه الله في حق رسوله على القول الراجح.
وقوله: {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} استثناء من النساء لأنه يتناول الحرائر والإماء.
وقد اختلف العلماء في تحليل الأمة الكافرة. القول الأوّل: أنها تحلّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم لعموم هذه الآية، وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم. القول الثاني: أنها لا تحلّ له تنزيهاً لقدره عن مباشرة الكافرة. ويترجح القول الأوّل بعموم هذه الآية، وتعليل المنع بالتنزّه ضعيف فلا تنزّه عما أحله الله سبحانه، فإن ما أحله فهو طيب لا خبيث باعتبار ما يتعلق بأمور النكاح، لا باعتبار غير ذلك، فالمشركون نجس بنص القرآن. ويمكن ترجيح القول الثاني بقوله سبحانه: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} [الممتحنة: 10] فإنه نهي عام {وَكَانَ الله على كُلّ شَيْء رَّقِيباً} أي مراقباً حافظاً مهيمناً لا يخفى عليه شيء ولا يفوته شيء.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات} قال: هذا في الرجل يتزوّج المرأة ثم يطلقها من قبل أن يمسها، فإذا طلقها واحدة بانت منه ولا عدّة عليها، تتزوّج من شاءت، ثم قال: {فَمَتّعُوهُنَّ وَسَرّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} يقول: إن كان سمى لها صداقاً، فليس لها إلاّ النصف، وإن لم يكن سمى لها صداقاً متعها على قدر عسره ويسره، وهو السراح الجميل.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} منسوخة نسختها التي في البقرة: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237].
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن المسيب نحوه.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن وأبي العالية قالا: ليست بمنسوخة، لها نصف الصداق ولها المتاع.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إن طلق ما لم ينكح فهو جائز، فقال ابن عباس: أخطأ في هذا، إن الله يقول: {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} ولم يقل: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهنّ.
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس: أنه تلا هذه الآية، وقال: لا يكون طلاق حتى يكون نكاح.
وقد وردت أحاديث منها أنه: «لا طلاق إلاّ بعد نكاح» وهي معروفة.
وأخرج ابن سعد وابن راهويه وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب. قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه، فعذرني، فأنزل الله: {ياأيها النبي إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك} إلى قوله: {هاجرن مَعَكَ} قالت: فلم أكن أحلّ له لأني لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من وجه آخر عنها قالت: نزلت فيّ هذه الآية: {وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاتي هاجرن مَعَكَ} أراد النبيّ أن يتزوّجني فنهي عني إذ لم أهاجر.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك} إلى قوله: {خَالِصَةً لَّكَ} قال: فحرّم الله عليه سوى ذلك من النساء، وكان قبل ذلك ينكح في أيّ النساء شاء لم يحرم ذلك عليه، وكان نساؤه يجدن من ذلك وجداً شديداً أن ينكح في أيّ النساء أحبّ، فلما أنزل إني حرّمت عليك من النساء سوى ما قصصت عليك أعجب ذلك نساءه.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في السنن عن عائشة قالت: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم.
وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي وابن مردويه عن عروة، أن خولة بنت حكيم كانت من اللاتي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب وعمر بن الحكم وعبد الله بن عبيدة قالوا: تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة: ست من قريش: خديجة وعائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة، وثلاث من بني عامر بن صعصعة، وامرأتين من بني هلال ابن عامر: ميمونة بنت الحارث، وهي التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وزينب أم المساكين، والعامرية وهي التي اختارت الدنيا، وامرأة من بني الجون وهي التي استعاذت منه، وزينب بنت جحش الأسدية، والسبيتين: صفية بنت حيي، وجويرية بنت الحارث الخزاعية.
وأخرج البخاري وابن مردويه عن أنس قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبيّ الله هل لك بي حاجة؟ فقالت ابنة أنس: ما كان أقلّ حياءها، فقال: هي خير منك رغبت في النبي صلى الله عليه وسلم، فعرضت نفسها عليه.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد الساعدي، أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوهبت نفسها له فصمت. الحديث بطوله.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أزواجهم} قال: فرض الله عليهم أنه لا نكاح إلاّ بوليّ وشاهدين.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مثله وزاد: ومهر.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عليّ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ الحامل حتى تضع، والحائل حتى تستبرأ بحيضة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ} قال: تؤخر.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه في قوله: {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ} يقول: من شئت خليت سبيله منهنّ، ومن أحببت أمسكت منهنّ.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: تهب المرأة نفسها! فلما أنزل الله: {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ} الآية قلت: ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك.
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال: همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق من نسائه، فلما رأين ذلك أتينه، فقلن: لا تخلّ سبيلنا، وأنت في حلّ فيما بيننا وبينك، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت، فأنزل الله: {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ} يقول: تعزل من تشاء، فأرجأ منهن نسوة وآوى نسوة، وكان ممن أرجى ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة، وكان يقسم بينهن من نفسه وماله ما شاء، وكان ممن أوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، فكانت قسمته من نفسه وماله بينهنّ سواء.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية: {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ} فقلت لها: ما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول: إن كان ذلك إليّ فإني لا أريد أن أوثر عليك أحداً.
وأخرج الروياني والدارمي وابن سعد، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والضياء في المختارة عن زياد، رجل من الأنصار قال: قلت لأبي بن كعب: أرأيت لو أن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم متن أما كان يحلّ له أن يتزوّج؟ قال: وما يمنعه من ذلك؟ قلت: قوله: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ} قال: إنما أحلّ له ضرباً من النساء، ووصف له صفة، فقال: {ياأيها النبي إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك} إلى قوله: {وامرأة مُّؤْمِنَةً} ثم قال: لا يحلّ لك النساء من بعد هذه الصفة.
وأخرج عبد بن حميد والترمذي وحسنه، وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلاّ ما كان من المؤمنات المهاجرات قال: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} فأحلّ له الفتيات المؤمنات {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيّ} وحرّم كل ذات دين غير الإسلام، وقال: {ياأيها النبي إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك} إلى قوله: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين} وحرّم ما سوى ذلك من أصناف النساء.
وأخرج ابن مردويه عنه قال: نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج بعد نسائه الأول شيئاً.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: حبسه الله عليهن كما حبسهن عليه.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن أنس قال: لما خيرهنّ فاخترن الله ورسوله قصره عليهن، فقال: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ}.
وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ الله له أن يتزوّج من النساء ما شاء إلاّ ذات محرم، وذلك قول الله: {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء}.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وأحمد وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، والترمذي وصححه، والنسائي وابن جرير وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي من طريق عطاء عن عائشة قالت: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ الله له أن يتزوّج من النساء ما شاء إلاّ ذات محرم لقوله: {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء}.
وأخرج ابن سعد عن ابن عباس مثله.
وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رزين {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ} قال: من المشركات إلاّ ما سبيت فملكت يمينك.
وأخرج البزار وابن مردويه عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك وأبادلك امرأتي أي تنزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله: {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} قال: فدخل عيينة بن حصن الفزاري إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة، فدخل بغير إذن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين الاستئذان؟» قال: يا رسول الله، ما استأذنت على رجل من الأنصار منذ أدركت، ثم قال: من هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله: «هذه عائشة أم المؤمنين»، قال: أفلا أنزل لك عن أحسن خلق الله؟ قال: «يا عيينة، إن الله حرّم ذلك»، فلما أن خرج قالت عائشة: من هذا؟ قال: «أحمق مطاع، وإنه على ما ترين لسيد قومه».

1 | 2 | 3 | 4 | 5